تسوكيجي… قلب طوكيو الذي ينبض برائحة البحر
منذ فجر القرن العشرين، ظل سوق تسوكيجي بطوكيو أكثر من مجرد سوق للأسماك — إنه مسرح الحياة اليابانية في أنقى صورها، حيث يمتزج العرق بملح البحر، والهدوء بالدقة، ليولد طعام اليابانيين من رحم الفجر.
مقدّمة: حين ينهض البحر قبل الشمس
قبل أن تفتح طوكيو عينيها على ضوء الصباح، هناك عالم صغير يستيقظ على وقع حفيف الشباك وأصوات المزادات العالية.
في تلك اللحظات، تتنفس المدينة من خلال سوق تسوكيجي — المكان الذي كان ولسنوات طويلة النبض الاقتصادي والوجداني للبحّارة والطهاة والباعة على السواء.
كل شيفٍ في اليابان يعرف أن الطريق إلى مطعمه يمرّ عبر تسوكيجي.
فمن هنا تبدأ الحكاية: حيث تُختار الأسماك، ويُصنع القرار حول طعم الغداء في كل بيتٍ ومطعم من هوكايدو حتى كيوشو.
1. ولادة تسوكيجي: بين الدمار والنهوض
تعود جذور السوق إلى عام 1935، حين قرّرت الحكومة اليابانية إنشاء سوقٍ مركزي للأسماك بعد أن دمر زلزال كانتو العظيم عام 1923 معظم الأسواق التقليدية.
تم بناء السوق على أنقاض حيٍّ ساحليّ قديم في منطقة تسوكيجي (Tsukiji) القريبة من خليج طوكيو، وبدأت قصته كـ رمزٍ لإعادة الإعمار الياباني بعد الكارثة.
ومنذ ذلك الحين، صار هذا المكان مرادفًا لـ “الأسماك الطازجة”، وواجهةً يزورها السياح والطهاة والباحثون عن الجوهر الياباني في الطعام.
2. مزاد التونة: المسرح المقدّس للفجر
في الساعة الرابعة صباحًا، حين لا تزال المدينة غارقة في الصمت، يبدأ الحدث الأكثر رهبة في تسوكيجي: مزاد التونة.
صفوفٌ من الأسماك العملاقة تُعرض على الأرض كجنود بحريةٍ عائدين من المعركة.
يتفحصها المشترون بعيونٍ خبيرة، يقيسون لون اللحم وملمسه ولمعانه، ثم تبدأ الصيحات:
“إيتشي، ني، سان!”
ليُباع بعضها بملايين الينات، خصوصًا أسماك التونة الزرقاء (Bluefin Tuna) القادمة من بحر اليابان أو من شمال الأطلسي.
وليس المزاد تجارةً فحسب، بل طقسٌ يشبه الصلاة — يُقام كل فجرٍ في معبدٍ من الجليد.
3. الداخل والخارج: عالمان متكاملان
كان السوق ينقسم إلى منطقتين أساسيتين:
-
المنطقة الداخلية (Inner Market): حيث تجري المزادات والتجارة بالجملة، ويُسمح بالدخول فقط للتجّار والطهاة المحترفين.
-
المنطقة الخارجية (Outer Market): متاهة من الأزقة والمحال الصغيرة والمطاعم، حيث يمكن للزائر العادي أن يتذوّق السوشي الطازج أو حساء الكبد البحري وهو لا يزال ينبض بالحياة.
تلك الأزقة كانت تشبه قلبًا نابضًا بالبساطة — تُباع فيها الأدوات الخشبية والمخللات البحرية والسكاكين الحادة التي لا تُشبه أي شيء آخر في العالم.
4. رحيل تسوكيجي… وولادة تويوسو
في أكتوبر عام 2018، أُغلق السوق الداخلي لتسوكيجي بعد أكثر من 80 عامًا من الخدمة، وانتقل النشاط التجاري إلى سوقٍ جديد أكثر حداثة في منطقة تويوسو (Toyosu Market).
كان القرار مؤلمًا للكثيرين، إذ فقدت طوكيو بذلك أقدم رموزها الشعبية، المكان الذي كان يجمع بين العرق، والضوضاء، والروح.
لكن روح تسوكيجي لم تمت.
فالمنطقة الخارجية ما زالت تعيش، والمطاعم القديمة ما تزال تفتح أبوابها كل صباح لتقدّم السوشي من نفس الموردين الذين ملأوا أزقة السوق القديم.
يمكن القول إن تسوكيجي لم يرحل — بل توزّع في ذاكرة المدينة.
5. تسوكيجي في الثقافة اليابانية
لم يكن السوق مجرد مكانٍ لتجارة السمك، بل مادةً حيّة للأدب والسينما.
في روايات كوبو آبي وموراكامي هاروكي، يظهر تسوكيجي كرمزٍ للتحوّل الدائم — حيث يلتقي الإنسان بالبحر، والجهد بالزمن.
حتى الصحافة اليابانية كتبت عنه كما لو كان كائنًا حيًا يشيخ ويبتسم.
وفي وثائقيات NHK، ترى كيف يتحدث الصيادون عن السمك كما لو كانوا يحدّثون أبناءهم، وكيف يحملون احترامًا عميقًا للبحر الذي يمنحهم رزقهم.
تسوكيجي كمرآةٍ لليابان
أن تزور تسوكيجي يعني أن تلامس قلب اليابان كما هو: منضبط، متواضع، ودائم الحركة.
هنا تتجلى فلسفة “وابي-سابي” — الجمال في البساطة، والكمال في ما هو ناقص.
وحين يختلط صوت المزاد بصوت النوارس، تدرك أن اليابان لا تزال تصغي إلى البحر، وتعرف أن غذاءها الحقيقي ليس في السمك، بل في الإتقان الذي يُمارس بحبّ.
🏮 المراجع اليابانية المعتمدة لهذا المقال:
-
موقع The Japan Times – أرشيف تغطيات سوق تسوكيجي 2018
-
قاعدة بيانات NHK World Japan – وثائقي “Goodbye Tsukiji”
-
مجلة Nikkei Asia
