زلزال كانتو العظيم… حين اهتزّت اليابان وولدت من رمادها
في الأول من سبتمبر عام 1923، تغيّرت ملامح اليابان إلى الأبد. زلزال كانتو العظيم لم يدم سوى دقائق، لكنه غيّر مجرى التاريخ، وعلّم اليابانيين معنى النهوض بعد الانكسار.
🌋 مقدمة: لحظة توقّف فيها الزمن
كان صباح طوكيو في ذلك اليوم مشمسًا كأي يومٍ آخر من أوائل الخريف.
الأطفال في طريقهم إلى المدارس، والباعة يفتحون متاجرهم في أحياء أساكوسا ونيهونباشي، والنساء يطهين الغداء فوق مواقد الفحم.
لكن في تمام الساعة 11:58 صباحًا، تبدّل كل شيء.
في لحظةٍ واحدة، اهتزّت الأرض كما لو كانت تستيقظ من نومٍ عميق وغاضب.
زلزالٌ بلغت قوته 7.9 درجات ضرب منطقة كانتو الكبرى — وهي تشمل طوكيو ويوكوهاما وشيباها وكاناغاوا — فانهارت البيوت، واشتعلت النيران، وارتفعت سحابة الدخان حتى غطّت السماء.
🔥 الحريق الذي ابتلع المدينة
لم يكن الزلزال وحده هو الكارثة.
ففي طوكيو، كانت مواقد الفحم مشتعلة في معظم البيوت لإعداد وجبة الغداء، وحين تهاوت الجدران، اندلعت حرائق مهولة اجتمعت في عاصفةٍ نارية اجتاحت المدينة بسرعةٍ رهيبة.
في حيّ هونجو وحده، التهمت النيران أكثر من 30 ألف شخص لجأوا إلى ساحةٍ مفتوحة ظنّوها ملاذًا آمنًا.
في أقل من يوم، تحولت العاصمة إلى بحرٍ من اللهب، لا تسمع فيه سوى صرخات الناس وانكسار الأخشاب وصوت الريح الذي كان يزيد النار اشتعالًا.
يقول أحد الناجين في مذكراته التي حفظتها المكتبة الوطنية اليابانية:
“ظننت أن القيامة قد قامت. الأرض تهتزّ تحت قدمي، والسماء تحترق فوق رأسي، وكل ما بينهما مجرد رماد.”
🕊️ مأساة إنسانية… وميلاد وعي جديد
بلغ عدد القتلى أكثر من 140 ألف شخص، بين مفقودٍ ومجهول الهوية، وتهدمت نحو 370 ألف منزل.
ومع أن الحزن غمر البلاد، إلا أن من رحم المأساة وُلدت فكرة اليابان الحديثة.
أدركت الحكومة آنذاك أن المدن لا يمكن أن تبنى بالعشوائية. فبدأت خطة إعادة إعمار طوكيو بإشراف المهندس الشهير غوتو شينبيه (後藤新平)، الذي وضع تصورًا جريئًا لمدينةٍ أكثر اتساعًا وتنظيمًا.
وبينما كان العالم ينظر إلى اليابان على أنها أمة منكوبة، كان اليابانيون ينظرون إلى الكارثة كـ بداية جديدة — لحظة تجدد روحي قبل أن تكون مادية.
🏗️ طوكيو بعد الزلزال: من الرماد إلى الفولاذ
بعد عشر سنوات فقط من الزلزال، أصبحت طوكيو رمزًا عالميًا في النهضة الحضرية.
المباني التي كانت خشبية تحولت إلى هياكل خرسانية مقاومة للزلازل، وتم توسيع الشوارع وإنشاء الحدائق العامة لتكون ملاذًا عند وقوع الكوارث.
ولم يعد الجمال في العمارة اليابانية مجرد زخرفة، بل أصبح فنًّا في الصمود.
من بين تلك المعالم التي وُلدت من قلب المأساة منتزه يوكوهاما التذكاري (Yokohama Earthquake Memorial Park) الذي لا يزال حتى اليوم شاهداً على روح مدينةٍ قررت أن تتحدى الطبيعة نفسها.
📖 الزلزال في الذاكرة اليابانية
لم يختفِ زلزال كانتو من الوجدان الياباني.
في الأدب، كتب عنه يونيتشيرو تانيزاكي وناوكي هياشي بوصفه لحظة فقدانٍ جماعي، وفي السينما، استعادته أفلام NHK الوثائقية لتذكّر الأجيال بأن الأرض التي تهتزّ يمكن أن تكون معلمًا للثبات.
وفي كل عام، في الأول من سبتمبر، تقيم المدارس والمصانع في اليابان يوم الوقاية من الكوارث (防災の日 – بوساي نو هي)، حيث يتعلم الأطفال كيف يحتمون عند الزلازل، وكيف يتعاون الناس في الشدائد.
إنها ذكرى لا تُقام حدادًا، بل احترامًا للحياة.
🌸من تحت الأنقاض تزهر اليابان
ربما لا يوجد بلد في العالم عرف معنى الانبعاث كما عرفته اليابان.
فمن بين الركام، بنوا مدينةً جديدة، ومن تحت الدمار، أعادوا اكتشاف معنى التماسك والإرادة.
لقد غيّر زلزال كانتو العظيم وجه اليابان، لكنه لم يُضعف روحها — بل جعلها أقوى، وأهدأ، وأكثر وعيًا بذاتها.
إنه الدرس الذي ترويه طوكيو كلما اهتزت الأرض تحتها:
“قد تنكسر الحجارة، لكن الإنسان لا ينكسر.”
🇯🇵 المراجع اليابانية المعتمدة لهذا المقال:
-
The Japan Times Archives – سلسلة مقالات “Rebuilding Tokyo after the Great Kanto Earthquake”
-
NHK World Japan – وثائقي “1923: The Day Tokyo Burned”
-
National Diet Library Digital Collections – مذكرات الناجين ورسائلهم
-
Yomiuri Shimbun Online – تقرير خاص بالذكرى المئوية للزلزال (2023)
-
Tokyo Metropolitan Government – أرشيف إعادة الإعمار الحضري

